بسام الكوسا بين عبقرية التمثيل وسمو الدراما ... بقلم : يوسف بحصاص

عندما حضرت فيلم " رجل المطر " Rain Man الحائز على أربعة جوائز أوسكار لعام ( 1988 ) . بهرني الأداء الرائع لبطله " داستن هوفمان " Dustin Hoffman والذي نال إحدى تلك الجوائز كأحسن ممثل عن دوره في الفيلم .

وقد جسد هوفمان دوراً غاية في التعقيد , وهو دور رجل مصاب بمرض " التوحد " Autism ذاك المرض الذي يعجز المصاب به عن فهم الواقع الذي يعيشه , وعدم تمكنه من إقامة علاقات طبيعية مع المحيطين به .

وكانت قيمة الفيلم تكمن من أنه مقتبس عن قصة حقيقية للأمريكي " كيم بيك " Kim Peek الذي كان مصاباً بالتوحد ويملك قدرات استثنائية هائلة في التعامل مع العمليات الحسابية , وحل المسائل المعقدة بالإضافة لامتلاكه ذاكرة قوية قادرة على تخزين معلومات هائلة , وقدرة كبيرة على استرجاعها.

لقد حرص الممثل العبقري " هوفمان " على إجراء دراسة شاملة ووافيه لشخصية المصاب بالتوحد وكيفية سلوكها , واهتم بتفاصيل غاية في الدقة من حيث الحركة , وترديد الكلمات , وحالات الغضب , فقد أدى دورا غاية في الصعوبة خلته حينها أنه لن يتكرر بل لن يكون أحد قادراً على تكراره .وفي سبيل ذلك مكث لأشهر مع " بيك " حيث تحدثا طويلا وتنزها طويلا , وتناولا الطعام معا ... كل ذلك بغية التعرف عن كثب على كل شاردة وواردة بخصوص مرض التوحد.

ومع فورة الدراما السورية التي ترافق شهر رمضان , لم يكن لي بد من الإطلاع على بعض الأعمال , ليس لحاجتي لرؤيتها , ولكن لأنها دخلت بيتي من الباب العريض , فأي رقم على الريموت كونترول تضغطه سيتحول إلى مسلسل سوري على الشاشة الصغيرة .

واللافت أن معظم تلك المسلسلات تمتعت بقدر كبير من البذاءة والجنس والدم , بعيداً عن الأصالة والإيحاء , وبعيداً عن المواضيع الإنسانية , وتلك التي تحث على بناء القيم . حيث غطت العبارات النابية براعة الإخراج لتصبغ المشهد بصفة واقعية ( على حد زعم بعض المخرجين ) . بالإضافة إلى غياب النماذج الإيجابية لصالح السلبية على أساس أنها موجودة في الحياة الواقعية وعلى المشاهد أن يعرف ما يجري حوله .. ما يدعوني لقول ذلك هو أني كلما شاهدت مسلسلاً جديداً تفاقم ما يطرأ على نفسي من تغيير , وبت أحتاج إلى مدة طويلة لأمحو من ذهني تلك الصور والعبارات والمشاعر المقلقة . وخاصة تلك التي يشاهدها أبنائي , في سياق العروض التافهة .

ولكن في خضم هذا الابتذال العميق , يبرز على الشاشة مسلسل يكسر كل تلك المفاهيم الدخيلة , ليعيد إلينا بارقة أمل للدراما السورية , ولينقلنا إلى الإبداع القديم . إنه مسلسل " وراء الشمس " هذا المسلسل الذي نجح في الربط الوجداني بين المشاهد والممثل , لمشكلة كبيرة في حياتنا , وتناول العلاقة بين الفرد الطبيعي والمصاب بالتوحد , وما يرافق ذلك من عجز في الاتصال والتفاهم , وخاصة عندما تتقابل الحالة المرضية العقلية , مع الحالة النفسية الاجتماعية . وقد حرص كاتب المسلسل السيد محمد العاص على الأبعاد السيكولوجية التي أضفت على الأحداث والشخصيات مصداقية أكثر . إلا أنه كان من اللافت بل من المدهش , ذلك التجسيد الرائع لشخصية بدر والتي قام بها النجم بسام كوسا , حيث نجح بتوصيل هذا الدور إلى المشاهد بشكل مقنع ومدهش لا مثيل له في الدراما , ليس السورية فحسب بل العربية , وليس من المبالغة إذا قلت أن بسام الكوسا جاوز عبقرية هوفمان في تقمص الدور , ولم يكرر الدور بل تفوق علي صاحبه , وأضفى عليه حيوية أكثر , حتى ليصعب على من لا يعرفه أنه إنسان سليم يمثل دور مصاب بالتوحد .

بسام الكوسا ... لو كان هناك اوسكاراً عربياً لكنتَ أحق به من أي ممثل على خارطة الوطن العربي , ليس لأدوارك المتميزة السابقة فحسب , بل لدورك الكبير في مسلسل وراء الشمس هذا الدور الإنساني الذي قل نظيره في الدراما السورية . والذي أدخل إلى بيوتنا القيم الإنسانية في زحمة العروض الهابطة وغير الجديرة بالمشاهدة .